كثير : الملائكة صمد والآدميون جوف ..
سابعاً: بيان اشتقاق اللفظ وأصل مادته وكذا الألفاظ المتناسبة معه ( الصَّمَدُ – السَّيِدُ – المَقْصُوُد – المُصْمَتُ – الجَامِعُ ) واستعمالها في اللغة في اللسان العربي ؛ وبيان المناسبة بين اللفظ والمعنى . فهذا البند هام جداً في فهم المعاني وتصورها وترسخها في الأذهان ؛ مع التعرف على جمال وقوه وإحكام اللغة العربية في إبانتها للمعاني المطلوبة . .
1- حرف الميم :
حرف شفهي يجمع الناطق به شفتيه فوضعته العرب علماً على الجمع فقالوا للواحد : أنت ؛ وللجمع : أنتم ؛ وللواحد الغائب : هو ؛ وللجمع : هم وكذلك في المتصل : ضَرَبت ضربتم ؛ إيّاك إيّاكمُ ؛ إيّاه إيّاهم ،ونظائره نحو به وبهم . ويقولون للشيء الأزرق إذا اشتدت زرقته وأجتمعت واستحكمت : زُرقُم ؛ .. وتأمل الألفاظ التي فيها الميم كيف تجد الجمع معقوداً بها مثل : لَمَّ الشيء إذا جَمَعَه ؛ وألَمَّ بالشيء : إذا قارب الاجتماع به والوصول إليه : ومنه الأمَّ : وأُمُّ الشيء اصله الجَامِعُ له وأمُّ الرأس : الجلدة التي تجمع الرأس ؛ ومنه التوأم : للولدين المجتمعين في بطن ؛ والأمة : الجماعة المتساوية في الخلقة أو الزمان أو اللسان ؛ ومنه الإمام الذي يجتمع المقتدون به على إتباعه ؛ ومنه رمَّ الشيء : يَرُمُّه ( ترميماً ) إذا جمع متفرقة وأصلحه ؛ ومنه ضمَّ الشيء : إذا جمعه ... ... وغير ذلك كثير ، وألحقوا الميم بلفظ الجلالة ( اللهمَّ ) إيذاناً بجمع أسمائه كلها وصفاته تعالى، فالسائل إذا قال : ( اللهمَّ ) فكأنه يقول يا ألله يا من لك الأسماء الحسنى كلها والصفات العُلي أ . هـ من كلام ابن القيم بتصرف في تعليق على لفظ (اللهمَّ) .
والمراد هنا أن الميم في الصَّمَدَ مؤذنة دالة على الجمع .
2- حرف الصاد مع الميم ( صم ) :
يقول بن فارس في المقاييس : الصاد والميم أصل يدل على تضام ( اجتماع ) في الشيء وزوال الخرق والسَّم ( يعنى الصاد مع الميم تدل على اجتماع أجزاء الشيء وتماسكها بقوةٍ ، حيث لا توجد مَسَام ولا خروق ولا خلل ولا ثغرات ؛ فلا يخترقه ولا يجزئه ولا يضعفه شيءٌ آخر ) :" صمام القارورة " : وهو سدادها يسد الفرجة ولا يُخْتَرق .
من ذلك : الصَّمم في الأذن لانسداد السمع حيث لا يخترقه الصوت .
* الحجر الأصم : الصلب المُصْمَتُ (ليس بأجوف) فهو مجتمع متماسك قوي.
* الرجل الصَّمة : الشجاع الذي لا تتفرق ولا تضعف إرادته عند المواجهات.
* وكذلك الصّمَّة : الذكر من الحيات ؛ وكذلك الأسد ؛ أو كأنه لا وصول أو اختراق له بوجه .
*صميم الشيء : خالصه ؛ حيث لم يدخل إليه ولم يختلط به ما يفرقه ويضعفه ؛ يقال من صميم الذهب … من صميم الحر … من صميم البرد …
من صميم قومه … وهكذا .
* دَاهِيّةٌ صَمَّاءٌ : أمر لا فرجة فيه .
* صَمَّمَ في الأمر : إذا مضى فيه راكباً رأسه لم يسمع لعذل عاذل أو أمر آمر أو نهى ناه فكأنه أصَمَّ .
* الصَّمصَمةَ : الجماعة كأنها اجتمعت حتى لا خلل فيها ولا خرق .
* الصَّمصَام : السيف الصارم القاطع الذي لا ينثني .
والخلاصة أن أصل هذه المادة ( صم ) الجمع ؛ والجمع فيه القوة .
3- الصاد والميم والدال :
أصلان أحدهما : ( القصد ) ؛ والآخر : ( الصلابة )
الأول : صَمَدَ يَصْمِدُ ( بكسر الميم وضمها) صَمْداً : قصد ؛ ويقال قصدته وقصدت له ؛ وقصدت إليه ؛ وكذلك : صمدته ؛ وصمدت له ؛ وصمدت إليه وهو مصمود ؛ ومصمود له ؛ ومصمود إليه .
* بيت مصمود ومُصْمَّدَّا : إذا قصده الناس في حوائجهم .
الصَّمَدَ والمُصْمَّدُ : وهو السَّيِدُ ( رئيس القبيلة أو القوم ) الذي يَصمُد إليه قومه لقضاء حوائجهم .
الثاني : الصلابة : حيث اجتمع الشيء بعضه إلى بعض وتضّام بشده ولم يكن فيه خلو ؛ وازداد تماسكه وقوته حتى صار صُلْباً ؛ وعبر عن هذا المعنى بتثليث الصاد والميم والدال ؛ والدال حرف قوى ؛ وتظهر قوته عند النطق به ومن أمثلة ذلك من اللسان والقاموس :-
أرض صَمْدة : مرتفعه غليظة متماسكة قوية ( وحولها رمال غير متماسكة ) ؛ وكذلك صخرة راسيةُ في الأرض مستوية أو مرتفعه .
ناقة صَمْدة : حُمِلَ عليها فلم تلقح ؛ إذا لم يفرق الولد بطنها ..
ناقة مِصْمَاد : الدائمة الرسل على القُر والجدب ؛ إذ مع شده البرد وقلة الطعام فهي دائمة الرسل ( الإمداد باللبن ) .
صِمَاد : هو العفاص وهو جلدٌ يُلْبسه رأس القارورة ( وهو بخلاف الصمام فهو أعلى منه ويُحيط به ويجمع القارورة والصمام ) وكذلك ما يلفه الإنسان على رأسه من خرقة أو منديل دون العمامة ؛ فهي تجمع الرأس وهى أعلى ما في الإنسان .
يصمد المال : يجمعه .
رجل صمد : لا يجوع ولا يعطش في الحرب ؛ وهذه قمة الصلابة في الإنسان ( والخلاصة ) :
أن الرجل إذا اجتمع له من الصفات مثل ( الاجتماع والقوة والمتانة والحلم والأناة والعقل والشجاعة والكرم وسعه الصدر والأفق وغير ذلك ) فإنه يكون أهلاً بسيادة قومه يصمدونه في حوائجهم ؛ وهذا هو الصَّمَدَ من الناس ؛ غير أن صمديته بشرية ناقصة ؛ وهى نسبيه ؛ أعنى بالنسبة إلى أفراد قومه كما يقال في المثل الدارج ( الأعرج بين المكسحين سلطان ) فهو وإن كان صمداً من بعض الوجوه ؛ فإن حقيقة الصَّمَدَية منتفية عنه؛فإنه - كما سبق بيانه - يقبل التفرق والتجزأ ؛ وهو أيضاً محتاج إلى غيره ؛ فإن كل ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه ؛ فليس أحدٌ يصمد إليه كل شيء ولا يصمد هو إلى شيء إلا الله تبارك وتعالى فحقيقة الصَّمَدَية وكمالها له وحده ؛ واجبة لازمة ؛ لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه .
وإذا كان أهل اللغة قد استعملوا أسم الصَّمَدَ في حق المخلوقين كما تقدم لذلك لم يقل الله تعالى في سوره الإخلاص : الله صمد ؛ بل قال : ( الله الصَّمَدَ ) لأنه المستحق لأن يكون هو الصَّمَدَ دون ما سواه ؛ فإنه المستوجب لغايته على الكمال . وال التعريفية لبيان علميته تعالى على الصَّمَدَية فلا يشاركه فيها غيره .
4- الألفاظ المتقاربة والمتناسبة : وهى التي أقواها الصَّمَدَ : " الصَّمَدَ – المُصْمَتُ – السَّيِدُ – المَقْصُوُد – الجَامِعُ "
أرجو من القارئ الكريم ألاَّ يستطيل الكلام في هذه اللغويات ، لأنها ركيزة أساسية في فهم الأسماء الحسنى ، وفي تصّورِ عظمة اللغة العربية وانفرادها بالإبانة الدقيقة ، وأنها لا تماثلها لغة أخري .
(أ) المُصْمَتُ : قال ابن فارس : الصاد والميم والتاء أصل واحد يدل على إبهام وإغلاق من ذلك : صمت الرجل : إذا سكت ؛ وباب مصمت قد أبهم إغلاقه ( فالرجل أصلاً أجوف يتفرق بالكلام وغيره ؛ فإذا سكت فهو مجتمعٌ قويٌ لا يتفرق بالكلام أثناء صمته ؛ وكذلك الأصل في الباب أنه يفتح ويتفرق بالفتح ؛ لكن إذا أغلق حيث لا يفتح فهو مجتمعٌ قويٌ لا يتفرق بالفتح طالما أبهم إغلاقه ؛ بخلاف الباب المصمد فإنه لا يفتح أبداً ولا يتفرق بالفتح ؛ فالمصمد أقوى من المُصْمَتُ ؛ لان حرف الدال أقوى من التاء وان كانتا أختين ؛ وأذكر مثالاً على ألسنة العامة الآن ؛ عندما يقام البناء على المساحة الموجودة دون نقصٍ ، يعنى دون أن تتفرق المساحة إلى جزء للبناء وجزء للشارع فإنهم يقولون : البناء على الصامت؛وهذا المثال يقرب المعني جداً ).
قال شيخ الإسلام "ج 17 / ص 232 ، 233" :
والاشتقاق الأصغر : اتفاق القولين في الحروف وترتيبها ( مع اختلاف الضبط ) .
والاشتقاق الأوسط : اتفاقهما في الحروف لا في الترتيب .
والاشتقاق الأكبر : اتفاقهما في أعيان بعض الحروف ؛ وفى جنس الباقي كاتفاقهما في كونهما من حروف الحلق ؛ إذ قيل حزر & عزر & أزر فإن الجميع فيه معنى القوة والشدة ، وقد اشتركت مع الراء والزاي والحاء والعين والهمزة في أن الثلاثة حروف حلقيه ؛ وعلى هذا فإذا قيل الصَّمَدَ : بمعنى المُصْمَتُ وأنه مشتق منه بهذا الاعتبار فهو صحيح ؛ فإن الدال أخت التاء وإن الصمت : هو السكون ؛ وهو إمساك وإطباق الفم عند الكلام .
قال أبو عبيد : المُصْمَتُ : الذي لا جوف له وقد أصْمَتُّه أنا ؛ وباب مصمت : قد أبهم إغلاقه ؛ والمُصْمَتُ من الخيل : البهيم ؛ أي لا يخالط لونه لون آخر ومنه قول ابن عباس : إنما حرم من الحرير المُصْمَتُ ؛ ( وفى القاموس ؛ ثوب مصمت : لا يخالط لونه لون أخر ) فالصَّمَدَ والمُصْمَتُ متفقان في الاشتقاق الأكبر(في أعين الأحرف م ، ص ، م ، وفى جنس الحرفين د ، ت) وليست الدال منقلبه عن التاء ؛ بل الدال أقوى ، والمصمد أقوى في معناه من المُصْمَتُ ؛ وكلما قوى الحرف كان معناه أقوى ؛ فإن لغة العرب في غاية الإحكام والتناسب ولهذا كان الصَّمْتُ : إمساك عن الكلام مع إمكانه ؛ والإنسان أجوف يخرج الكلام من فيه لمنه قد يصمت ؛ بخلاف الصَّمَدَ فإنه إنما استعمل فيما لا تفرق فيه كالصَّمَدَ والسَّيِدُ والصَّمَدَ من الأرض ؛ وصماد القارورة ونحو ذلك ( كما تقدم ) ؛ فليس في هذه الألفاظ المتناسبة أكمل من لفظ الصَّمَدَ فإن فيه الصاد والميم والدال ؛ وكل هذه الحروف الثلاثة لها مزية على ما يناسبها من الحروف ، والمعاني المدلول عليها بمثل هذه الحروف أكمل ، ( ثم بين رحمه الله أن معنى الصبر مما يناسب هذه المعاني ، حيث إن الصبر حبس النفس عن الجزع قال تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ) ، والصُّبْرة من الطعام فأنها مجتمعه مُكوّمه ، والصَّبارة : الحجارة ، وضد الصبر الجزع ، ثم بين رحمه الله – معاني الجزع والهلع وأن فيها معنى التقطع والتفرق والتشتت والتقسُّم ؛ ثم قال : ) وهذه المعاني كلها تنافى الثبات والقوة والاجتماع والإمساك والصبر ؛ وقد قال تعالى ( لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ) التوبة / 110 . وهذا وإن كان قد قيل : أن المراد أنها تتصدع فيموتون ، فإنه كما قيل في مثل ذلك : قد انصدع قلبه ؛ وقد تفرق قلبه ؛ وقد تشتت قلبه ؛ وقد تقسم قلبه ؛ ومنه يقال للخوف : قد فرق قوله كقوله تعالى : (وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ) ؛ ويقال بإزاء ذلك : وهو ثابت القلب ؛ مجتمع القلب ؛ مجموع القلب . أ . هـ
(ب) السَّيِدُ : ( قال رجل للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْتَ سَيِّدُنَا فَقَالَ :" السَّيِدُ اللَّهُ " رواه أبو داود في الأدب (4806) وأحمد 4/24 ، 25 ، قال الألباني : صحيح برقم ( 3700 ) في صحيح الجَامِعُ . معروف أن الغرفة المطلية باللون الأبيض ؛ أقل ضوء يكفيها لكي تستنير وتتضح فيها الرؤية ؛ بخلاف المطلية باللون الأسود ؛ فإنها تحتاج إلى أضعاف ذلك من الإضاءة حتى تستنير وتتضح فيها الرؤية ؛ والسبب في ذلك هو أن اللون الأبيض يعكس ويفرق ويبعثر الأشعة الضوئية الساقطة عليه فتنتشر في الغرفة ؛ أما الأسود فيمتص الأشعة الساقطة عليه ويجمعها ويحتفظ بها ولا يدعها تتفرق وتنتشر ؛ وعلى ذلك فاللون الأسود جامع للضوء ؛ ففيه معنى الجمع ؛ والجمع فيه القوة كما تقدم في المصمد والمُصْمَتُ وكما في القاموس : السواد : المال الكثير والعدد الكثير ؛ وسداد القارورة الذي يدخل في فمها فيجمع مادتها ولا يدع خلواً أو ثغرة تنفذ منها ، وعلى ذلك اشتقوا من مادة السواد كلمات ... تنفع في التعبير عن معنى اجتماع القلب وقوته حيث ينتفي الهلع والجزع والطيش والعجلة وهذه الكلمات هي : السَّيِدُ – السؤدد – السيادة .
والسَّيِدُ أصله : سَيْوَد ؛ كَميَّت وأصله : مَيْوَت .
وعلى هذا يمكن فهم كلام ابن فارس في المقاييس؛وكلام ابن تيميه كما يلي: قال ابن فارس :
السين والواو والدال أصل واحد وهو خلاف البياض في اللون ؛ ثم يحمل عليه ويشتق منه ؛والسواد في اللون معروف ( وذكر أمثله كثيرة منها ) فلان اسود من فلان أي : أعلى سيادة منه ؛ ويقال سادني فلان فسُدْتُه من اللون والسؤدد جميعاً( لأن مادة السواد والسؤدد واحدة ) والقياس في الباب كله واحد .
قال شيخ الإسلام : " ج 17 / 226 ، 227 "
فأصل هذه المادة الجمع والقوه ؛ ومنه يقال يصمد المال : أي يجمعه ؛ وكذلك السَّيِدُ : أصله سَيْوَد ؛ اجتمعت ياء وواو ؛ وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ؛ كما قيل ميت وأصله مَيْوَت؛ والمادة في السواد والسؤدد تدل على الجمع ؛ واللون الأسود هو الجَامِعُ للبصر ؛ وقد قال تعالى : ( وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ) آل عمران / 39 ؛ قال أكثر السلف وسيداً : حليماً ؛ وكذلك يروي عن الحسن ، وسعيد بن جبير ؛ وعكرمة ؛ وعطاء ؛ وأبى الشعثاء ؛ والربيع بن أنس ؛ ومقاتل ، وقال أبو ورق عن الضحاك : إنه الحسن الخلق وروي سالم عن سعيد بن جبير : أنه التقي ولا يسود الرجل الناس حتى يكون في نفسه مجتمع الخلق ثابتاً ، وقال عبد الله بن عمر : ما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية ؛ فقيل له ولا أبو بكر ولا عمر ؟ قال : كان أبو بكر وعمر خيراً منه ؛ وما رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية ؛ قال أحمد : يعنى به الحليم ؛ أو قال : الكريم ؛ ولهذا قيل :
إذا شِئْتَ يوماً أن تَسُوَد قَـبِيلةً فَباِلحِلْمِ سُدْ لاَ بِالتَّسَرُعِ والشَّتْمِ
( ثم ذكر أقوالاً للسلف في معنى السَّيِدُ : سيد قومه في الدين ؛ الشريف الذي يفوق قومه في الخير ، الرئيس والإمام في الخير ؛ الكريم على ربه ؛ الفقيه العالم ) .
وقال أيضاً " ج 17 / 230 " :
فهم إنما سمَّوْا السَّيِدُ من الناس صمداً : لما فيه من المعنى الذي لأجله يقصده الناس ، والسَّيِدُ من السؤدد والسواد ، وهذا من جنس السداد في الاشتقاق الأكبر ؛ فإن العرب تعاقب بين حرف العلة والحرف المضاعف ؛ كما يقولون : تقضّى البازي وتقضض ؛ والساد : هو الذي يسد غيره ؛ فلا يبقى فيه خلو ؛ ومنه سداد القارورة ، وسِداد الثغر - بالكسر فيها - : وهو ما يسد ذلك ؛ ومنه السَداد - بالفتح - : وهو الصواب ؛ ومنه القول السديد : قال الله تعالى ( اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ) الأحزاب /70 ؛ قالوا : قصداً حقاً ؛ وعن ابن عباس : صواباً ؛ وعن قتادة ومقاتل : عدلاً ؛ وعن السُّدَّي : مستقيماً ؛ وكل هذه الأقوال صحيحة ؛ فان القول السديد هو المطابق الموافق ؛ فإن كان خبراً ؛ كان صدقاً مطابقاً لمخبره لا يزيد ولا ينقص ؛ وإن كان أمراً ، كان أمراً بالعدل الذي لا يزيد ولا ينقص ولهذا يفسرون السداد : بالقصد ؛ والقصد بالعدل ؛ قال الجوهري : التسديد : التوفيق للسداد - وهو الصواب - والقصد في القول والعمل ؛ ورجل مُسَدَّد : إذا كان يعمل بالسداد والقصد ، والمسدد :المقوم،وسدَّد رمحه،وأمر سديد وأسدّ : أي قاصد أ . هـ (ج) المَقْصُوُد : وهذه اللفظة أيضاً فيها معنى الجمع والقوه ومعنى إتيان الشيء وأمِّهِ .
قال ابن فارس : القاف والصاد والدال أصول ثلاثة يدل أحدها على إتيان شيء وأَتّه ، والآخر على كسر وانكسار ؛ والآخر على اكتناز في الشيء . فمن الأول : أقْصَدَه السهم : إذا أصابه فقتل مكانه ؛ وكأنه قيل ذلك لأنه لم يَحِدْ عنه ( يعنى لم يتشتت ولم يتفرق عن هدفه ، بل هو مطابق موافق للمهمة ) .
ومن الثاني : الناقة القصيد : المكتنزة الممتلئة لحماً ( وذلك أيضاً واضح فيه معنى الجمع والقوه ) .
وشيخ الإسلام بعد أن بين أن معنى القول السديد : القصد الحق العدل المستقيم المطابق الموافق ؛ قال : وتعبيرهم عن السداد بالقصد يدل على أن لفظ القصد فيه معنى الجمع والقوه ؛ والقصد : العدل كما أنه السداد والصواب وهو المطابق الموافق الذي لا يزيد ولا ينقص ؛ وهذا هو الجَامِعُ المطابق ومنه قوله تعالى ( وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) النحل / 9 ؛ أي السبيل : القصد وهو السبيل العدل ، أي إليه تنتهي السُبُل العادلة ، كما قال تعالى (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) الليل/ 12 ؛ أي الهدى إلينا ؛ هذا أصح الأقوال في الآيتين ؛ وكذلك قوله تعالى (قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) الحجر /41 ومنه في الاشتقاق الأوسط : الصدق ؛ فإن حروفه حروف القصد فمنه الصدق في الحديث لمطابقته مخبرهُ ؛ كما قيل في السداد والصَّدْق : بالفتح الصلب من الرماح ، ويقال : المستوى ، فهو معتدل صلب ليس فيه خلل ولا عوج ، والصندوق واحد الصناديق فإنه يجمع ما يوضح فيه ... أ . هـ ، فتاوى ابن تيميه ج17 /230 ،231 .
ومن كلامه أيضاً في الألفاظ المتناسبة قال : ص 227 ، 228 / ج 17 : وقد تقدم انهم يقولون لعفاص القارورة : صماد ؛ قال الجوهري : العفاص : جلدٌ يُلْبَسُهُ رأس القارورة ؛ وأما الذي يُدْخلُ في فمه فهو الصمام ؛ وقد عَفَصْتُ القارورة : شددت عليها العفاص . قلت : في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ثم اعرف عفاصها ووكاءها ) في اللقطه " بخ 2427 ، 2429 " ومسلم في اللقطه " 2722/1 , 5,7 " كلاهما عن زيد بن خالد الجهني ) وصحيح برقم : (1050) في صحيح الجَامِعُ .
والمراد بالعفاص : ما يكون فيه الدراهم كالخرقة التي تربط فيها الدراهم ؛ والوكاء : مثل الخيط الذي يربط به ؛ وهذا من جنس عفاص القارورة ؛ ولفظ العفص والسد والصَّمَدَ والجمع والسؤدد معانيها متشابهة ؛ فيها الجمع والقوة ؛ ويقال : طعام عفص ومنه عفوصة أي : تَقَبُضْ ، ومنه العفص الذي يتخذ منه الحبر . أ . هـ .
(د) الجَامِعُ : قال ابن فارس : الجيم والميم والعين تدل على تَضَآمِّ الشيء وذلك أضعف من المُصْمَتُ الذي يدل على تضّامَ في الشيء وزوال السَّمَّ والخرق ( كما تقدم ) وبالتالي فهو أضعف من الصَّمَدَ في الدلالة وكذلك يقال عن أي لفظ آخر فيه دلالة على الجمع والقوة ويثبت أن الصَّمَدَ هو الأقوى والأشمل دلاله على الحقائق والمعاني المطلوب إثباتها – فسبحان الصَّمَدَ - . ثامناً:
** الدعاء بالصَّمَدَ **
علمنا أن هذا الاسم فيه إثبات جميع صفات الكمال وصفات التنزيه ومن ثمَّ فدعاء الله به يتضمن الدعاء بالأسماء الحسنى كلها ؛ وذلك يستلزم إستجماع قوى القلب العلمية والعملية والتوجه بها بصدق إلى الصَّمَدَ المَقْصُوُد لذاته ؛ والصدق أصل مادته القوة ؛ كما تقدم ؛ وهو هنا بذل الجهد واستفراغ الوسع ؛ حتى يؤخذ الدين بقوة في كل أجزائه وفى جميع الأحوال ؛ بالاستعانة بالله قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) وقال (أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) وقال ( أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ؛ ويظهر ذلك في دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء العبادة .
* دعاء المسألة :
(1) توجيه القصد كله بجميع الحوائج إلى الصَّمَدَ بالإقبال عليه دون ما سواه مع الأخذ بالأسباب المأمور بها شرعاً واليقين بأنها - مهما كَبُرَتْ وتَزَيّنَتْ - مملوكة لله مربوبة مدبرة له فهو سبحانه ربها ومليكها وخالقها ومقدرها ؛ وهو مقيتها الذي قاتها لتوجد ؛ ثم قاتها لتستمر في الوجود ، ولو حبس قوته عنها هلكت وأصبحت عدماً ؛ فليحذر المؤمن أن تستغرقه الأسباب فينسي الصَّمَدَ .
(2) التزام آداب الدعاء كما في قوله تعالى (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) الأعراف / 55 .
إذ الدعاء بغير تضرع ، دعاء بلا روح ، فهو دعاء ميت وفيه اعتداء . والتضرع : هو التذلل والتمسكن والانكسار ؛ والخفية : هي مسألة مناجاة القريب للقريب ، لا مسألة نداء البعيد للبعيد ، فكلما استحضر القلب : قرب الله منه ، وأنه أقرب إليه من كل قريب ، وتصور ذلك أخفي دعاءه ما أمكنه ولم يتأت له رفع الصوت به ، بل يراه غير مستحسن كما أن من خاطب جليساً له يسمع خَفِيَّ كلامه ، فبالغ في رفع الصوتِ ، استهجن ذلك منه ، ولله المثل الأعلى سبحانه .
قال تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ 00000 الايه ) البقرة .
وفى الحديث عند البخاري 6/ 157 في الجهاد والسير ؛ لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فَقَالَ :" ارْبعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ مَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ " رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد وأبو داود وابن ماجة ، واللفظ لأحمد .
وفى قوله تعالى : ( إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) عقب قوله ( ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ) ؛ دليل على أن من لم يدْعه تضرعاً وخفيه فهم من المعتدين الذين لا يحبهم .
ومن الآداب أيضاً الخوف والطمع كما قال تعالى ( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) ؛ أي إنما ينال الرحمة من دعاه خوفاً وطمعاً فالتضرع والخفية والخوف والطمع ينبغي أن تكون حال الداعين عند دعائهم وإلا دخلوا في الاعتداء ، كدعاء المُدلّ المستغْنى بما عنده المدل على ربه . والله لا يحب ذلك ، ومن لم يحبه الله فأي خير يناله ؟! ؛ والله لا يستجيب الدعاء من قلب غافل لاهٍ .
(3) اجتناب الاعتداء في الدعاء : ومن ذلك ما تقدم من ترك آداب التضرع والخفية والخوف والطمع ومن أعظمه ، إنما هو سؤال غير الله من دون الله أو مع الله ، ومنه الذي يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك ، ومنه الذي يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات ، والذي يسأل ما لا يفعله الله ( كطلب التخليد إلى يوم القيامة ) أو الإعفاء من لوازم البشرية ؛ أو أن يجعله من المعصومين ؛ ومنه كل سؤال يناقض حكمة الله أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره ؛ أو يتضمن خلاف ما اخبر به ، فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله ؛ ومنه الدعاء بالإثم وقطيعه الرحم .
ولقد علق ابن القيم تعليقاً نفيساً على هاتين الآيتين من سوره الأعراف (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) بدائع الفوائد 3/22 : 35 – " وإنما ذكرت قليلا منه بمعناه " - .
(4) الحرص على أن يكون المطعم من حلال ، وكذلك المشرب ، والملبس وما شابهه واجتناب موانع الإجابة ، والحرص على أن تكون المسألة عن الدين والآخرة أكثر بكثير من المسألة عن الدنيا ومتاعها ؛ وابتغاء الوسيلة ( من صدقه وصلاة وما شابهه ) بين يدي السؤال والطلب ، وأقوي وأجمل وأجمع صيغ الدعاء هي أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم مع بذل الجهد في فهم معانيها وإلاّ كانت علي اللسان دون القلب وقد علمنا خطر ذلك .
وأعلم أيها المسلم : أن الصَّمَدَ عز وجل يحب الإلحاح في الدعاء ، ويغضب على من لا يسأله ، ولا تستطل الكلام في دعاء المسألة هذا فإنه دعاء بالصَّمَدَ ؛ وهو يعم دعاء المسألة بجميع الأسماء الحسنى .
وفي الحديث أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ :" اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدَ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ " رواه الترمذي وابن ماجة وأبو داود وأحمد وابن حبان وصححه الحاكم ، وصححه الألباني في
( صحيح سنن الترمذي ) .
* دعاء الثناء :-
كل ثناء على الله تعالى بما هو أهله من صفات الكمال فهو داخل في الثناء عليه باسمه الصَّمَدَ ، وتلاوة سوره الإخلاص بالفهم الذي تبين هو ثناء على الله باسمه الصَّمَدَ وبتوحيده العلمي الإعتقادي .
* دعاء العباده :-
الصدق واخذ الدين بقوه كما تقدم .
التخلق بالأخلاق الحسنه : وهى التخلق بمقتضى صفات الكمال لله التي جاء الأمر بها في الشريعة والنهي عن أضدادها .
( فان الله شكور يحب الشاكرين ،
رحيمٌ يحب الرحماء ،
عفوٌ يحب العافين ،
جميلٌ يحب الجمال ،
طيب يحب الطيبين . ) ............ وهكذا .
- ومن ذلك قضاء حوائج المسلمين بحق وتفريج كربهم -
* توجيه الوجه ( القصد ) وإسلام الوجه لله ، وإقامة الوجه للدين .